فصل: مسألة هل لي أن أتكلم يوم الجمعة بغير الخطبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة هل لي أن أتكلم يوم الجمعة بغير الخطبة:

قال أشهب: وقال لنا رأيت زفر بن عاصم في الليل من ليلة الجمعة يرسل إلي هل لي أن أتكلم يوم الجمعة بغير الخطبة؟ فقلت له أما الشيء اليسير من الكلام الحسن مثل أن تنهى عن الشيء أو تأمر به فلا بأس بذلك، ثم قال لنا: قد كان عمر بن عبد العزيز يخطب يوم الجمعة فيقول: لولا أن أُنْعِش سنة أو آمر بحق ما أحببت أن أعيش فَوَاقا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن للإمام أن يتكلم يوم الجمعة، وهو على المنبر بغير الخطبة، ولا يكون بذلك لاغيا، قال فيها: وكذلك لا يكون لاغيا من رد على الإمام إذا كلمه وهو يخطب، وهو أمر لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب. والحجة في إجازة ذلك ما روي عن أبى الزاهرية عن عبد الله بن بشر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجلس، فقد آذيت وآنيت»، قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام، وما روي عن جابر بن عبد الله قال: «جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، فقعد قبل أن يصلي، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما» وهذا نص في جواز تكلم الإمام على المنبر يوم الجمعة بغير الخطبة، وفي جواز الرد عليه لمن كلمه، وتأول أصحابنا أنه إنما أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالركوع في ذلك الوقت ليرى الناس حاجته فيتصدقون عليه، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، فناداه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما زال يقول: ادن حتى دنا، فأمره فركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق، ثم صنع مثل ذلك في الثانية، فأمره بمثل ذلك ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة، فأمره بمثل ذلك وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تصدقوا، فألقوا الثياب، فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ ثوبين..» الحديث. وذهب أهل العراق إلى أنه لا يجوز للإمام أن يتكلم في خطبة بغير الخطبة ولا لأحد ممن كلمه أن يرد عليه، وقالوا: يحتمل أن يكون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع خطبته ليعلم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد ثم استأنفها، لا أنه تكلم فيها ثم تمادى عليها، وهذا بعيد، وبالله التوفيق.

.مسألة الإمام يخطب من أمر كتاب يقرؤه ليس أمر الجمعة أينصت من سمعه:

وسئل عن الإمام يخطب من أمر كتاب يقرؤه ليس من أمر الجمعة ولا الصلاة، أينصت من سمعه؟ قال: ليس ذلك عليهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الإنصات إنما يجب في الخطبة المتضمنة بالصلاة؛ لاتصالها بها وكونها بمعناها في تحريم الكلام فيها، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغى». فالخطب ثلاث: خطبة يجب الاستماع إليها والإنصات لها باتفاق وهي خطبة الجمعة؛ إذ لا اختلاف فيها أنها للصلاة، وخطبة لا يجب الاستماع إليها ولا الإنصات لها باتفاق وهي خطب الحج، وهن ثلاث: أولها قبل يوم التروية بيوم بمكة، والثانية خطبة عرفة يوم عرفة بعرفة قبل الظهر، والثالثة ثاني يوم النحر بمنى بعد الظهر؛ إذ لا اختلاف في أنها للتعليم لا للصلاة، وخطبة يختلف في وجوب الاستماع إليها والإنصات لها وهي خطبة العيدين والاستسقاء على اختلافهم هل هي للصلاة أم لا، وقد مضى ذلك في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم.

.مسألة تحذير المأموم الإمام بالكلام في الصلاة قبل السلام:

قال: وقد قيل هل بلغك أن ربيعة صلى خلف رجل من قريش مرة فسها سهوا يكون سجوده قبل السلام، فأطال الجلوس عند انقضاء صلاته، فخشي ربيعة أن يسلم ثم يسجد سجدتي السهو، فقال له: إن السجدتين قبل السلام، فقال: هذا ما سمعته ولا ينبغي، ولو سمعته ما تحدثت به، أيتكلم المرء وهو يصلي؟
قال محمد بن رشد: إنكار مالك لهذا الذي حكي له عن ربيعة من تحذير المأموم الإمام بالكلام في الصلاة قبل السلام عن السهو قبل أن يسهو مخافة أن يسهو- صحيح على أصله في أن السلام من فرائض الصلاة، وأنه لا يتحلل منها إلا به، وأن الكلام فيها قبله يبطلها إلا فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة إذا لم يفهم عنه الإمام بالإشارة والتسبيح ولم يجد من ذلك بدا، على حديث ذي اليدين، وإن صح ذلك عنه فيخرج على قول أهل العراق في أن السلام من الصلاة ليس من فرائضها، وأن المصلي إذا جلس في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته وإن لم يسلم، والله أعلم.

.مسألة الذي يصلي إلى جنب الإنسان ليستتر بشقه:

وسئل عن الذي يصلي إلى جنب الإنسان ليستتر بشقه، فقال: إنما يصلي الناس إلى ظهره، فأما إلى جنبه فلا أرى ذلك، أرأيت لو صلى وهو مقابله، فهذا مثله إذا التفت استقبله بوجهه، فلا أرى ذلك.
قال المؤلف: لما كان لا يجوز للمصلي أن يصلي إلى وجه الرجل مستقبلا له في صلاته لما يدخل عليه بذلك من الشغل عن صلاته، كان الذي يصلي إلى جنب الإنسان قريبا في المعنى؛ لأنه لا يأمن أن يلتفت فيستقبله بوجهه فيدخل عليه بذلك شغلا من صلاته، وذلك بين من تعليله في الرواية؛ ولهذا المعنى كرهت الصلاة إلى المتحلقين؛ وذلك أنه لابد أن يستقبله بعضهم بوجهه فيشغله عن صلاته، وبالله التوفيق.

.مسألة ينكسر بهم المركب فيتعلقون بالألواح والأرجل كيف يصلوا:

وسئل عن القوم ينكسر بهم المركب فيتعلق بعضهم بالألواح وبعضهم بالأرجل، فتحضرهم الصلاة وهم على ذلك، أترى أن يصلوا إيماء برؤوسهم؟ فقال: نعم يصلون إيماء برؤوسهم. قلت: أرأيت إن خرجوا أيعيدون الصلاة؟ قال: أرأيت إن خرجوا في وقت؟ فقال: إن خرجوا في وقت فليصلوا.
قال الإمام القاضي: قوله: إنهم يصلون إيماء برؤوسهم إذا لم يقدروا إلا على ذلك صحيح، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. وقوله: إنهم يعيدون إن خرجوا في الوقت هو مثل قوله في المدونة في الخائف من السباع أو اللصوص يصلي على دابته: إنه يعيد في الوقت بخلاف العدو، والإعادة في ذلك كله في الوقت إنما هو استحباب؛ ليدرك فضيلة الوقت بالصلاة ساجدا وقائما، فإن تركوا الإعادة في الوقت حتى خرج الوقت لم يعيدوا بعد الوقت، وقيل: إنهم يعيدون بعد الوقت لتركهم الإعادة في الوقت، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وفي سماع أبي زيد عن ابن القاسم من هذا الكتاب دليل عليه، ولو ترك الذين ينكسر بهم المركب ونحوهم الصلاة إيماء لوجب عليهم أن يصلوا إذا قدروا على الصلاة وإن ذهب الوقت بإجماع. وهذا إذا كانوا على وضوء، وأما إذا لم يكونوا على وضوء فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أنهم يصلون إيماء على حالتهم ولا يعيدون، والثاني أنهم يصلون ويعيدون، والثالث أنهم لا يصلون حتى يقدروا على الوضوء، والرابع أنهم لا يصلون ولا يعيدون. واختلف إن لم يقدروا على الصلاة أصلا بإيماء ولا غيره حتى خرج الوقت، فقيل: إن الصلاة تسقط عنهم، وهي رواية معن بن عيسى عن مالك في الذين يكتفهم العدو فلا يقدرون على الصلاة، وقيل: إنها لا تسقط عنهم وعليهم أن يصلوا بعد الوقت، وهو قوله في المدونة في الذين ينهدم عليهم البيت، وبالله التوفيق.

.مسألة يقرأ في صلاة العشاء في ركعة منها سرا أترى عليه سجود السهو:

وسئل عن الذي يقرأ في صلاة العشاء في ركعة منها سرا ثم ذكر فيعيد القراءة جهرا، أترى عليه سجود السهو؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: لم ير عليه سجود السهو في زيادة القرآن في الصلاة سهوا، وهو أصل مختلف فيه، فله مثل هذا في الصلاة الأول من المدونة في الذي يسهو عن قراءة أم القرآن حتى يقرأ السورة ثم يرجع فيقرأ أم القرآن والسورة، وفي الذي يقرأ في الركعتين الآخرتين بأم القرآن وسورة، وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من هذا الكتاب في الذي يشك في قراءة أم القرآن بعد أن قرأ السورة، فرجع فقرأ أم القرآن والسورة، وخلافه أنه يسجد للسهو في رسم إن خرجت من سماع عيسى في الذي يسهو فيسر بقراءة أم القرآن، ثم يذكر بعد فراغه من قراءتها فيعيد قراءتها في الصلاة الثاني من المدونة والحج الأول منها في الذي ينسى التكبير في صلاة العيدين حتى يقرأ أنه يرجع فيكبر ثم يقرأ، ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين مسألة العيدين هذين وبين الذي سها عن قراءة أم القرآن حتى قرأ السورة فرجع فقرأ أم القرآن والسورة- بأنه قدم في مسألة العيدين قرآنا على تكبير، وفي المسألة الثانية قرآنا على قرآن، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الأمر عائد في المسألتين إلى زيادة قرآن، فهو اختلاف من القول كما قلنا، وبالله التوفيق.

.مسألة التهجير يوم الجمعة:

قال: وسئل عن التهجير يوم الجمعة فقال: نعم يهجر يوم الجمعة بقدر، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. وقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغدون إلى الجمعة هكذا، وأنا أكره هذا الغدو هكذا حتى إن المرء ليُعرف به، وأنا أخاف على هذا الذي يغدو للرواح أن يدخله شيء وأن يحب أن يعرف بذلك وأن يقال فيه، فأنا أكره هذا ولا أحبه، ولكن رواحا بقدر. وقد سمعت إنسانا يسأل ربيعة الأول يقول: لأن أُلْقَى في طريق المسجد أحب إلي من أن أُلْقَى في طريق السوق، فقيل لمالك: فما تقول أنت في هذا؟ قال: هذا ما لا يجد أحد منه بدا، قيل له: أفترى أن يروح قبل الزوال؟ قال: نعم في رأيي، قيل له: أيهجر بالرواح إلى الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: نعم في ذلك سعة.
قال الإمام: كره مالك رَحِمَهُ اللَّهُ الغدو بالرواح إلى الجمعة من أول النهار؛ لأنه لم يكن ذلك من العمل المعمول به على ما ذكره من أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا لا يغدون هكذا إلى الجمعة، فاستدل بذلك على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد بالخمس ساعات في قوله: «من اغتسل ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة»، ساعات النهار المعلومة من أوله على ما ذهب إليه جماعة منهم الشافعي، وإنما عنى بذلك ساعة الرواح، وهي الساعة التي تتصل بزوال الشمس ووقت خروج الإمام، فهي التي تنقسم على خمس ساعات، فيكون الرائح في الساعة الأولى منها كالمهدي بدنة، والرائح في الساعة الثانية منها كالمهدي بقرة، والرائح في الساعة الثالثة منها كالمهدي كبشا أقرن، والرائح في الساعة الرابعة منها كالمهدي دجاجة، والرائح في الخامسة منها المتصلة بزوال الشمس وخروج الإمام كالمهدي بيضة، ولما لم تكن هذه الساعة المنقسمة على خمس ساعات محدودة بجزء معلوم من النهار قبل الزوال فيعلم حدها حقيقة، وجب أن يرجع في قدرها إلى ما اتصل به العمل وأخذه الخلف عن السلف؛ فلذلك قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ إنه يهجر بقدر، أي: يتحرى قدر تهجير السلف، فلا ينقص منه ولا يزيد عليه أيضا، فيغدو إلى الجمعة من أول النهار؛ لأنه إذا فعل ذلك شذ عنهم، فصار كأنه فهم من معنى الحديث ما لم يفهموه، أو رغب من الفضيلة ما لم يرغبوه، ولم يأمن أن يحب أن يعرف لذلك ويذكر به، فتدخل عليه بذلك داخلة تفسد عليه نيته، وسيأتي القول على ما يخشى من خواطر النفس في رسم العقول من آخر هذا السماع إن شاء الله. ووجه استدلال مالك لما ذهب إليه من أن التهجير إلى الجمعة ينبغي أن يكون بقدر؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أنه حمل قَوْله تَعَالَى: بِقَدَرِ على عموم ما يقتضيه اللفظ من القدر الذي هو المشيئة والإرادة، والقدر الذي هو التقدير والتحديد، فدخل تحت عموم ذلك جميع مقدرات الشريعة، وأما استدلاله على ذلك بقوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، فلا إشكال فيه؛ لأن المعنى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، أي: حد له حدا، فوجب أن يمتثل إذا ثبت بما يجب ثبوته به من نص أو دليل، وبالله التوفيق.

.مسألة تفوته مع الإمام ركعة فيجلس الإمام للتشهد أيتشهد معه وهي له واحدة:

وسئل مالك عمن تفوته مع الإمام ركعة، فإذا صلى معه ركعة جلس الإمام فتشهد، أيتشهد معه وهي له واحدة؟ فقال: نعم يتشهد.
قال محمد بن رشد: وجه قوله أنه لما جلس بجلوس الإمام وإن لم يكن ذلك له موضع جلوس لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» وجب أن يتشهد لتشهده. وبهذه المسألة احتج ابن الماجشون لما ذهب إليه من أنه يقوم إذا سلم الإمام بتكبير، فقال: إنه لما جلس بجلوس الإمام صار ذلك له موضع جلوس، فوجب أن يتشهد وأن يقوم إذا سلم الإمام بتكبير، وهذا لا يلزم ابن القاسم؛ لأنه لم يتشهد من أجل أن ذلك صار موضع جلوس له، وإنما تشهد لما لزمه من اتباع الإمام في الجلوس لما لم يستطع مخالفته، فإذا سلم الإمام وجب أن يرجع إلى حكم صلاته فلا يكبر؛ إذ قد كبر حين رفع رأسه من السجدة التي كان يلزمه أن يقوم بها، فلا يزيد تكبيرة ثانية بسبب جلوسه مع الإمام في غير موضع جلوس له، وهذا بين، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا:

قال: وسئل عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا، فقال: لا يفعل، ليس مما مضى من أمر الناس، قيل له: إن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا الله، أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم نسمع له خلافا، فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به، فقال: نأتيك بشيء آخر أيضا لم نسمعه مني، قد فتح على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا، إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه.
قال محمد بن رشد: نهى مالك رَحِمَهُ اللَّهُ عن سجود الشكر في هذه الرواية مثل ما له في المدونة من كراهة ذلك، والوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين فرضا ولا نفلا، إذ لم يأمر بذلك النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه، واستدلاله على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ. وهذا أيضا من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر»؛لأنا أنزلنا ترك نقل أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها، وكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها، وقد أباح السجود فيها الشافعي ومحمد بن الحسن، واحتج لهما من نصر قولهما بما قص الله تعالى علينا من سجود داود عَلَيْهِ السَّلَامُ بقوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وهذا لا دليل فيه؛ إذ ليست سجدة شكر، وإنما هي سجدة توبة، ولا يصح قياس سجدة الشكر على سجدة التوبة إلا بعد التسليم لإباحة سجدة التوبة، ونحن لا نسلم ذلك، بل نقول: إن شرعنا مخالف لشرع داود في إباحة السجدة عند التوبة من الذنب بمثل الدليل الذي استدللنا به في المنع من سجود الشكر، وبالله التوفيق.

.مسألة الدمل يتفقى بالرجل وهو في الصلاة أفينصرف أم يقيم على صلاته:

وسئل عن الدمل يتفقى بالرجل وهو في الصلاة، أفينصرف أم يقيم على صلاته؟ قال: ذلك مختلف إن كان انفجارا يسيرا فليصل كما هو، وإن كان انفجارا كثيرا فلينصرف.
قال محمد بن رشد: إنما فرق بين اليسير والكثير؛ لأن اليسير من الدم معفو عنه؛ لقول الله عز وجل: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]؛ لأن التوقي من الدم اليسير عسير؛ إذ لا ينفك منه، وحد اليسير في ذلك قدر ما يفتله الراعف من دم الرعاف ويتمادى في صلاته، والكثير ما زاد على ذلك، فإذا انصرف قطع ولم يبن بخلاف الرعاف؛ لأن البناء في الرعاف سنة تتبع، ولا يقاس عليها لمخالفتها القياس.

.مسألة وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة:

وسألته عن وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة المكتوبة يضع اليمنى على كوع اليسرى وهو قائم في الصلاة المكتوبة أو النافلة، قال: لا أرى بذلك بأسا في النافلة والمكتوبة.
قال محمد بن رشد: قول: لا أرى بذلك بأسا، يدل على جواز فعل ذلك في الفريضة والنافلة من غير تفصيل، وذهب في رواية ابن القاسم عنه في المدونة إلى أن ترك ذلك أفضل من فعله؛ لأنه قال فيها: لا أعرف ذلك في الفريضة وكان يكرهه، ولكن في النوافل قال: إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه، وسقط، وكان يكرهه في بعض الروايات، فالظاهر من مذهبه فيها مع سقوطه أن تركه أفضل؛ لأن معنى قوله: لا أعرف ذلك في الفريضة، أي: لا أعرفه فيها من سننها ولا من مستحباتها، وفي قوله: إنه لا بأس بذلك في النافلة إذا طال القيام ليعين به نفسه، دليل على أن فيه عنده بأسا إذا لم يطل القيام، وفي الفريضة وإن طال القيام، وأما مع ثبوته، وكان يكرهه فالأمر في ذلك أبين؛ لأن حد المكروه ما في تركه أجر وليس في فعله وزر، وذهب في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة إلى أن فعل ذلك أفضل من تركه، وهو الأظهر لما جاء في ذلك من أن الناس كانوا يؤمرون به في الزمان الأول، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعله، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز في المكتوبة والنافلة لا يكره فعله ولا يستحب تركه، وهو قوله في هذه الرواية، وقول أشهب في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع. والثاني: أن ذلك مكروه يستحب تركه في الفريضة والنافلة إلا إذا طال القيام في النافلة فيكون فعل ذلك فيها جائزا غير مكروه ولا مستحب، وهو قول مالك في المدونة وفي رسم شك في طوافه من كتاب الجامع. والثالث: أن ذلك مستحب فعله في الفريضة والنافلة مكروه تركه فيها، وهو قوله في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة. وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]: إن المراد بذلك وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى في الصلاة تحت النحر، وقد تأول أن قول مالك لم يختلف في أن ذلك من هيئة الصلاة التي تستحسن فيها، وأنه إنما كرهه ولم يأمر به استحسانا مخافة أن يعد ذلك من واجبات الصلاة. والأظهر أنه اختلاف من القول، والله أعلم.

.مسألة الصبي المراهق أيؤم الناس في الصلوات:

وسئل عن الصبي المراهق أيؤم الناس في الصلوات؟ فقال لي: أما الصلوات المكتوبات التي هي الصلوات فلا، وأما في النوافل فالصبيان يؤمون الناس فيها. قيل: أفيقدمون في رمضان؟ فقال: نعم لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية أن يؤم الصبي في النافلة وقيام رمضان، وهو استحسان على غير قياس، مراعاة لقول من يرى صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة إمامه، فيجيز إمامة الصبي في الفريضة والنافلة، وللرجل أن يصلي الفريضة خلف من يصلي نافلة. والقياس على مذهبه في أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه قوله في المدونة أن لا يؤم الصبي في النافلة. وما وقع من كراهة ذلك له في رسم حلف من سماع ابن القاسم؛ لأن نافلته وإن وافقت صلاة الصبي في كونها نافلة له على مذهب من يرى أنه مندوب إلى فعل الطاعات، فلا يأمن أن يصلي به على غير وضوء أو بغير نية؛ إذ لا حرج عليه في ذلك؛ لكونه غير مكلف، وبالله التوفيق.

.مسألة المسافر يصلي على دابته تستقبله الشمس في وجهه فيعرض عنها:

وسئل عن المسافر يصلي على دابته تستقبله الشمس في وجهه، فيعرض بوجهه هكذا عنها، أيتنفل كذلك؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، سمعت الجواب ولم أفهم ما سئل عنه حتى سألت فأخبرني عنه بذلك بعضهم.
قال محمد بن رشد: هذا خفيف كما قال: إنه لم يقصد بفعله الالتفات في صلاته، وإنما فعله للضرورة.

.مسألة المرأة تخمر رأسها في الصلاة ونحرها مكشوف:

وسئل عن المرأة تخمر رأسها في الصلاة ونحرها مكشوف، فقال: النحر موضع الخمار فلا أرى أن تفعل ذلك، وما زال يأخذ بقلبي أن القميص أوفق للمرأة وهو يزر. قال: ومن لباس النساء الدروع، وأنا أكره لباسهن القراقل وأظنه من لباس القبط، والدروع أحب إلي، فقلت له: أفتكره لباس القراقل في الصلاة وغيرها؟ فقال: أما أنا فأكره لباس القراقل، قال: ولم يكن من لباسهن، وقد كان يقال: من شر النساء المشبهة بالرجال.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن النحر مما يلزم المرأة أن تستره في الصلاة، وإنه موضع الخمار، يدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وقال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، والذي ظهر منها عند أهل العلم بالتأويل هو الوجه والكفان، فلا يجوز أن يبدو منها في الصلاة إلا ذلك.

.مسألة المرأة تلد فلا ترى دما هل تصلي:

وسئل عن المرأة تلد فلا ترى دما، فإنك قد قلت لي فيها قولا منذ سنين، فقال له: وما قلت لك؟ فقال له: قلت لي: إنها تصلي، ولكني إنما شككت في الغسل، فقال له: أوفي هذا شك؟ إنها تغتسل، لا يأتي من الغسل إلا خير.
قال محمد بن رشد: قوله: فلا ترى دما، أي: لا ترى دما كثيرا على عادة النساء عند النفاس؛ لأن خروج المولود دون شيء من دم خرق للعادة، فإذا انقطع الدم ولو من ساعته اغتسلت وصلت؛ لأن دم النفاس لا حد لأقله عند مالك وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافا لأبي يوسف في قوله إن حده خمسة عشر يوما فرقا بينه وبين أكثر الحيض، والغسل عليها واجب، وذلك بين في الرواية من قوله: أوفي هذا شك؟ إنها تغتسل، وليس في قوله: لا يأتي من الاغتسال إلا خير دليل على تخفيف وجوب الغسل، ومعناه عندي: لا يأتي من تعجيل الاغتسال وترك تأخيره إلى حد أقل دم النفاس عند من حد له حدا إلا خير، ولعله تكلم على خروج المولود نقيا من الدم إن وجد ذلك؛ ولذلك قال: إنه لا يأتي من الاغتسال إلا خير ويحتمل أن يكون مذهب من حد لأقل دم النفاس حدا ألا يعتبر بما دونه، فتصلي دون غسل وتعيد صلاة تلك الأيام، وهذا أشبه أن يكون مذهبهم؛ لأنه يبعد أن يكون من قول أحد أن تترك المرأة الصلاة وهي طاهرة لا دم بها، والله عز وجل يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، فإن كان هذا مذهبهم احتمل أن يكون أشار إليه مالك بقوله: لا يأتي من الاغتسال إلا خير، والله أعلم، وبه التوفيق.

.مسألة الرجل يخرج من المسجد وفي يده الحصباء قد نسيها أو في نعله:

وسئل عن الرجل يخرج من المسجد وفي يده الحصباء قد نسيها أو في نعله، أيرده إلى المسجد؟ فقال: إن رده فحسن، وما أرى عليه ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن ذلك حسن وليس بواجب؛ لأنه أمر غالب لا ضرر فيه على المسجد، فلم يلزم رده، كما أن ما يبقى بين أسنان الصائم من الطعام إذا ابتلعه في النهار مع الريق لم يجب عليه قضاء؛ لأنه أمر غالب، وقال ابن الماجشون: وإن كان متعمدا؛ لأنه ابتدأ أخذه في وقت يجوز له، وهو بعيد.

.مسألة التغليس بصلاة الصبح:

قال: وسئل مالك عن التغليس بصلاة الصبح أحب إليك أم الإسفار؟ قال: بل التغليس أحب إلي من الإسفار، وقد غلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد غلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن قول القائل: فعل فلان كذا، لا يدل على أكثر من مرة واحدة، وليس في تغليس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاة الصبح مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل أوقاتها، كما أنه ليس في إسفاره بها مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل أوقاتها، وإنما يدل على أن التغليس بها أفضل مداومة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، فكان الصواب أن يقول: وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغلس بها، وهو الذي أراد بحديث عائشة: «إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات»، الحديث، لكنه تجاوز في اللفظ لنفسه بفهم السائل، وهي حجة ظاهرة على أهل العراق في قولهم: إن الإسفار بها أفضل؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسفروا بالصبح، فكلما أسفرتم بها فهو أعظم للأجر» أو كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومعنى ذلك عندنا الحض على التأخير إلى أن يتضح إسفار الفجر، فلا يرتاب في طلوعه حتى يتفق قوله وفعله؛ لأنه يبعد في القلوب أن يداوم على الإغلاس الذي هو أشق، ويترك الإسفار الذي هو أخف مع كونه أعظم أجرا. فقد قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «ما خير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه»، فكيف إذا كان أعظم أجرا! هذا ما لا يصح لمسلم أن يقوله، وكذلك سائر الصلوات أول أوقاتها أفضل من آخرها عند مالك، وقد تأول بعض الشيوخ عليه في إنكاره لحديث يحيى بن سعيد في المدونة أن أول الوقت وأوسطه وآخره في الفضل سواء، وهو تأويل لا يصح إلا فيما عدا صلاة الصبح؛ لنصه في هذه الرواية أن التغليس بها أفضل من الإسفار، وفيما عدا صلاة المغرب إذ قد قيل: ليس لها إلا وقت واحد، فحصل الإجماع على القول بالمبادرة بها في أول وقتها، وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أخر صلاة المغرب إلى أن طلع نجم أو نجمان فأعتق رقبة أو رقبتين، وبالله التوفيق.